https://alwadiforasianstudies.com/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

 المؤلف : يونغ-تشول ها

 

يطرح النموذج التنموي في كوريا الجنوبية دروساً عديدة للدول حول أدوار الدولة وكيفية التعامل مع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن السياقات الدولية. من هنا، تأتي أهمية كتاب الباحث يونغ-تشول ها، بعنوان “التصنيع المتأخر، التقاليد، والتغير الاجتماعي في كوريا الجنوبية” والذي يبحث عملية التصنيع والتنمية داخل كوريا الجنوبية وأنماط التغييرات والتأثيرات المرتبطة بذلك. وتتأسس تلك العملية على أن التصنيع يُعد بمثابة التحول الجوهري في مدخل المجتمعات إلى الحداثة، انطلاقاً من التغييرات التي يحدثها التصنيع على مستوى الهياكل الاجتماعية والقطاعات والمؤسسات والثقافة.

 مسار غير غربي:

 

 تفترض نظرية التحديث أن التقدم الصناعي والاقتصادي يقترن بتراجع البنى الاجتماعية التقليدية، حيث يُنظر إلى التحديث كقوة تُفكك الروابط القديمة لصالح هياكل حديثة قائمة على الفردية والكفاءة؛ لكن تجربة كوريا الجنوبية في “التصنيع المتأخر” بيّنت عدم صحة هذا الأمر؛ بل قدمت نموذجاً متميزاً مغايراً لتلك المقولات؛ حيث إن العملية الصناعية، التي بدأت تتسارع في ستينيات القرن العشرين تحت قيادة بارك تشونغ هي، لم تؤدِّ إلى تفكيك الشبكات الاجتماعية التقليدية – مثل الروابط الأسرية والانتماءات الإقليمية والمدرسية- بل عززتها وأعادت توظيفها بشكل إيجابي في إطار عملية التنمية الاقتصادية.

  هذه الشبكات، التي كانت متجذرة في المجتمع الكوري منذ عصور ما قبل الحداثة، لم تُهمل أو تُعد عائقاً؛ بل أُدمجت في استراتيجية التنمية كقنوات حيوية لتوزيع الموارد وحشد الجهود الاجتماعية، ولعل هذا الدمج لم يكن بمثابة استجابة عملية لظروف محلية، بل انعكاساً لمرونة الثقافة الكورية وقدرتها على التكيف مع متطلبات الحداثة دون التخلي عن جذورها.

  إن سياق الدولة التنموية التي قادها بارك، جعل هذه الشبكات أكثر أهمية مما كانت عليه في الماضي، حيث تحولت من مجرد أدوات للتماسك الاجتماعي إلى أعمدة داعمة للنهضة الاقتصادية. على سبيل المثال، كانت الروابط الأسرية تُستخدم لتأمين الدعم المالي بين الأقارب في الأوقات الصعبة، لكن مع التصنيع أصبحت قنوات لتوفير فرص العمل ورأسمال أولي للمشاريع الصغيرة، وبالمثل، أدت الانتماءات الجغرافية الإقليمية دوراً في توجيه الموارد الحكومية نحو مناطق محددة؛ مما أسهم في تعزيز الثقة بين الأفراد والدولة في مرحلة كانت فيها المؤسسات الرسمية لا تزال في طور التكوين.

 

هذا التفاعل الفريد بين الحداثة والتقاليد تُرجم من جانب الكاتب تحت مصطلح “العائلية الجديدة”، وهو مفهوم يشير إلى استمرارية الروابط التقليدية مع إعادة تشكيلها لتتناسب مع متطلبات الاقتصاد الصناعي، بعيداً عن التصور الغربي الذي يرى التحديث كمسار خطي يقطع مع الماضي، حيث يقدم الكاتب نموذجاً يظهر كيف يمكن للتقاليد أن تكون محركاً للتقدم بدلاً من كونها عبئاً؛ وهو ما يميز التجربة الكورية عن غيرها من حالات التصنيع المتأخر.

 

ركيزتان أساسيتان:

 

بيّن الكاتب أن هناك ركيزتان مهمتان في تناول عملية التصنيع المتأخر في كوريا الجنوبية، وكانتا داعمتين لمسار الانتقال للتنمية الاقتصادية بها، يمكن توضيحهما في الآتي:

 

1) الشبكات التقليدية كمحرك للنمو الصناعي: لم تكتفِ الشبكات التقليدية في كوريا الجنوبية بدورها التاريخي كأدوات للحفاظ على التماسك الاجتماعي، بل تطورت لتصبح محركات فعّالة للنمو الصناعي السريع، فقد كانت تلك الشبكات بمثابة آليات للثقة والتنسيق؛ حيث كان المجتمع الكوري ينتقل من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد صناعي في غضون عقود قليلة. وفي ظل غياب مؤسسات حديثة متطورة، أصبحت الروابط الأسرية قنوات لتوزيع فرص العمل والدعم المالي؛ مما ساعد الأفراد على التكيف مع متطلبات السوق الجديدة. فعلى سبيل المثال، كان الأقارب يشكلون شبكات أمان اقتصادية؛ حيث يقدمون القروض أو المساعدة للانخراط في المشاريع الصناعية الناشئة.

 

واتصالاً بذلك؛ أدت الانتماءات الإقليمية دوراً حاسماً في توجيه العقود الحكومية والاستثمارات نحو مناطق مثل جيونغ سانغ، التي تحولت إلى مركز للقوة الاقتصادية والسياسية في ظل نظام بارك، هذا التوجيه لم يكن عشوائياً؛ بل نتيجة اعتماد الدولة على الولاءات الإقليمية لضمان التعاون بين القطاعين العام والخاص، حيث استفادت الشركات الكبرى مثل شركة “التشايبول”، التي حظيت بمزايات التفاعل والتعاون الخاص بين القطاعين العام والخاص، وبصورة خاصة في عمليات تأمين التمويل والعقود؛ مما عزز قدرتها على النمو بسرعة في ظل دعم الدولة.

 

وفي المقابل، اعتمد الأفراد على انتماءاتهم المدرسية والإقليمية للحصول على وظائف في هذه الشركات؛ مما خلق نظاماً مترابطاً يعتمد على الثقة المتبادلة بدلاً من الإجراءات البيروقراطية الرسمية، ولعل هذا النمط من التكامل بين الشبكات التقليدية والاقتصاد الصناعي يتناقض بشكل صارخ مع التجارب الغربية؛ حيث أدى التصنيع غالباً إلى تفتيت المجتمعات التقليدية واستبدالها بهياكل فردية.

 

2) “العائلية الجديدة”: وهي تُعد ركيزة فعالة في استراتيجية التنمية الكورية، ففي ظل حكم بارك تشونغ هي، لم تُعامل الروابط الإقليمية والمدرسية والأسرية الاجتماعية كعناصر متخلفة تعوق التقدم؛ بل كأدوات تمكين يمكن استغلالها لبناء اقتصاد صناعي قوي. فقد وجهت الدولة الموارد نحو الصناعات الاستراتيجية عبر هذه الشبكات، مستخدمةً الولاءات الشخصية كأساس لتوزيع الوظائف، وترقية المسؤولين، وتخصيص العقود الحكومية، وهذا النهج أنتج بيروقراطية فريدة قائمة على الثقة المستمدة من الروابط التقليدية بدلاً من المعايير الموضوعية مثل الجدارة أو الشفافية. فعلى سبيل المثال، كان خريجو المدارس الثانوية الإقليمية البارزة يتمتعون بأفضلية في اجتياز امتحانات الخدمة المدنية؛ مما عزز هيمنة شبكات معينة على الجهاز الحكومي.

 

تبعات اجتماعية:

 

وعلى الرغم من أن التكامل بين البنى التقليدية والاقتصاد الحديث ميّز التجربة التنموية الكورية؛ فإن له جوانب سلبية؛ فقد أدى الاعتماد المفرط على العلاقات غير الرسمية إلى تعميق الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، ويمكن توضيحها كالآتي:

 

1) الانقسامات الإقليمية: أدى تركيز الموارد على شبكات محددة، خاصة في مناطق مثل كيونغ سانغ، إلى توزيع غير متكافئ للفرص؛ مما فاقم الفجوة بين هذه المناطق وأخرى مثل جولا. هذا الاختلال لم يقتصر على المجال الاقتصادي؛ بل امتد إلى السياسة؛ حيث أسهم في تشكيل نظام حزبي مجزأ يعكس الولاءات الإقليمية بدلاً من المصالح الوطنية. ويشير الكاتب إلى أن هذه الانقسامات كانت نتيجة مباشرة لاستراتيجية التنمية التي فضلت شبكات معينة على حساب أخرى.

 

2) الفساد والمحسوبية: أدى الاعتماد على الولاءات الشخصية بدلاً من الكفاءة إلى تآكل الشفافية المؤسسية. فقد أصبحت العلاقات الشخصية معياراً للحصول على الفرص؛ مما أتاح لمجموعات مرتبطة بشبكات معينة الاستفادة على حساب الآخرين. هذا الوضع عزز الفساد داخل الحكومة؛ حيث أصبحت العقود والترقيات تُمنح بناءً على الانتماءات بدلاً من الأداء؛ مما أضعف ثقة المواطنين في النظام.

 

3) التوترات الاجتماعية: مع مرور الوقت، تحولت الشبكات من أدوات للتنمية إلى مصادر للتمييز والامتيازات الطبقية، وهو ما استغلته النخب لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي؛ مما أدى إلى اتساع الفجوة بين الطبقات والمناطق. ويؤكد الكاتب أن هذا التفاوت في توزيع مكاسب التنمية أثار تساؤلات حول عدالة النموذج واستدامته، خاصة مع تزايد الشعور بالإقصاء بين الفئات المهمشة.

 

ويرى الكاتب أن غياب الشفافية وتكافؤ الفرص أضعف قدرة المجتمع على تطوير هياكل عادلة؛ مما جعل الانتقال إلى نموذج تنموي أكثر شمولية تحدياً كبيراً، هذه التبعات تكشف عن الجانب السلبي للاعتماد على “العائلية الجديدة”؛ حيث تحولت من أداة للتقدم إلى مصدر للتوتر الاجتماعي.

 

تأثيرات دولية:

 

يؤدي السياق الدولي دوراً مهماً وحاسماً في تشكيل مسار التصنيع المتأخر في كوريا الجنوبية، وعلى عكس التجارب الدولية المماثلة كاليابان التي بدأت تصنيعها في ظل الإمبريالية، أو الصين التي نما اقتصادها في عصر العولمة؛ تأثرت تجربة كوريا الجنوبية بسياق الحرب الباردة؛ حيث شكلت عملية الدعم الأمريكي والتوترات الجيوسياسية بيئة مواتية لاستراتيجية التنمية القائمة على الدولة؛ لكن هذا المسار واجه تحديات كبيرة مع تعرض البلاد لضغوط اقتصادية خارجية، خاصة بعد الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، ويمكن توضيح تلك التأثيرات الدولية في تجربة كوريا في الآتي:

 

1) تراجع الدولة التنموية: بعد الأزمة المالية الآسيوية التي وقعت عام 1997، فقدت الدولة سلطاتها التخطيطية التقليدية؛ حيث لم يعد بإمكانها تخصيص الموارد لمناطق معينة كما في السابق، هذا التراجع أنهى هيمنة المنطقة الجنوبية الشرقية، التي كانت تُفضل خلال فترة التصنيع، وأدى إلى تحول في ديناميكيات القوة الإقليمية.

 

2) العولمة وأبعادها: للعولمة هنا تأثيران، الأول يكمن في أن ضغط العولمة دفع الشركات الكبرى (التشايبول) إلى تقليص اعتمادها على الدولة، خاصة بعد الأزمة المالية لعام 1997؛ حيث فرضت الحكومة الكورية قواعد جديدة لخفض نسب الديون إلى 200% وزيادة الشفافية في هيكل الحوكمة. وتحوّلت أنظمة التمويل من الضمانات الشخصية، التي كانت تعتمد على الشبكات التقليدية، إلى معايير دولية ترتكز على تقييم الجدارة الائتمانية ومخاطر السداد؛ مما أضعف دور “العائلية الجديدة” القائمة على الروابط الأسرية والإقليمية. وأصبح تأثير الدولة أو الرعاة أقل أهمية، حيث حلت ضمانات التأمين محل الدعم المتبادل؛ مما غيّر استراتيجيات الحصول على الموارد للأفراد والشركات، وعكس تحولاً بعيداً عن الأسس التقليدية للاقتصاد الكوري.

 

أما التأثير الثاني فهو أن العولمة فتحت آفاقاً لتعزيز الديمقراطية في كوريا الجنوبية، حيث أتاحت الانتخابات إعادة تشكيل المشهد السياسي وتصورات الدولة. فانتقلت القاعدة الإقليمية للسلطة من المنطقة الجنوبية الشرقية إلى الجنوبية الغربية؛ مما أدى إلى إعادة تكوين النخب وأنهى هيمنة الجنوب الشرقي تدريجياً، كما تجلى في عزل بارك كون هيه (2016-2017) وهزائم الحزب المحافظ في انتخابات 2017 و2018 و2020. هذه التغييرات، المدفوعة بتأثيرات العولمة، أضعفت النفوذ السياسي للشبكات الإقليمية التقليدية، معززةً توجهات ديمقراطية جديدة قلّصت اعتماد النظام على الولاءات القديمة، ورسمت ملامح مرحلة جديدة في السياسة الكورية.

 

3) صعود المجتمع المدني: مع تقدم التكنولوجيا، برزت وسائل التواصل الاجتماعي كقوة جديدة في كوريا الجنوبية؛ حيث ارتفع استخدامها من 16.8% في 2011 إلى 47.7% في 2019، وهذا الأمر عزّز دور المجتمع المدني؛ حيث أصبحت الشبكات الرقمية منصة لتنسيق الحركات الشعبية، ويدلل على ذلك “احتجاجات الشموع” التي نُظمت عبر هذه الوسائل، وأدت إلى محاكمة بارك كون هيه؛ مما يشير إلى تراجع الاعتماد على الروابط التقليدية في الحشد الاجتماعي والسياسي.

 

هذه التغيرات تشير إلى أن البيئة الدولية لم تؤثر فقط في بداية التصنيع، بل أعادت تشكيل مساره في مرحلة لاحقة؛ مما يبرز الحاجة إلى التكيف مع متطلبات العصر الحديث، ومع ذلك فإن هذا التحول ليس دليلاً على انهيار كامل للشبكات التقليدية. ففي بعض القطاعات، مثل النقابات العمالية والمؤسسات المالية، لا تزال ممارسات التوظيف القائمة على الروابط العائلية والإقليمية مستمرة؛ مما يعكس صراعاً بين القديم والجديد. هذا التناقض يبرز تعقيد التجربة الكورية، حيث تتعايش أنماط الحداثة مع بقايا الموروث الاجتماعي؛ مما يتطلب فهماً أعمق لكيفية إدارة هذا التوتر في المستقبل.

 

خلاصة القول؛ إن هنالك عوامل متعددة شكلت تجربة التصنيع المتأخر في كوريا الجنوبية كالإرث الاستعماري مع تراجع دور النخب التقليدية جنباً إلى جنب مع تأزم السياق الدولي إثر الحرب الباردة التي شهدتها المنظومة الدولية، كما أثرت وضعية الشبكات التقليدية في مسار التنمية الكوري؛ حيث دعمت النهضة الاقتصادية. وعلى الرغم من أهمية تلك الشبكات والروابط الإقليمية؛ فإنها تحولت لاحقاً إلى مصادر للانقسام، والفساد، وعدم المساواة الاجتماعية؛ مما يستدعي بناء نموذج جديد يوازن بين الفردية والجماعية، مع دمج الانتماء الوطني في هياكل ديمقراطية ورأسمالية شفافة، ولعل من بين متطلبات تحقيق هذا التوازن العمل على تخطي الموروثات غير الديمقراطية لضمان تنمية عادلة ومستدامة تلبي تطلعات المجتمع الكوري في العصر الحديث.

عرض: عبد المنعم علي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × 2 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube