
كتب محمد خير الوادي :
لم يأت الاعلان عن توقيع اتفاق دفاعي بين السعودية والباكستان من فراغ ، بل سبقته تطورت مهمة في المنطقة ، جعلت من هذا الاعلان ضرورة ماسة لكلا الطرفين . بداية اقول ، ان هذا الاتفاق سيفرض معادلات جديدة في المنطقة ، ويغير كثيرا من المقولات التي سعت اسرائيل لفرضها في الشرق الاوسط .
ابدأ من الاسباب التي جعلت الرياض الآن ، تُقدم على هذه الخطوة الحاسمة ، واعني الاتفاق الدفاعي مع الباكستان .
اولا: لقد راقبت الرياض بقلق بالغ تصاعد التهديدات الاسرائيلية ، وانفلات نتنياهو ،الذي اعلن بكل وقاحة في ايار من العام الجاري ، ان تغيير وجه الشرق الاوسط واقامة اسرائيل الكبرى ،هي مهمة تاريخية وروحية ( دينية يهودية ) مكلف بها . وترجمة هذا الاعلان الى اللغة السياسية يعني ، ان حكومة المتطرفين الحالية في تل ابيب ، لم تعد تكتفي بابتلاع ما تبقى من فلسطين ، وانهاء القضية الفلسطينة ، بل ان هذه الحكومة تتطلع الى الهيمنة الكاملة على المنطقة ، والاستيلاء على ثرواتها تمهيدا لبناء اسرائيل التوراتية . بكلمات اوضح ، فان هذا التوجه الاسرائيلي يعني ،دفع سياسة التوسع الصهيوني الى ما بعد فلسطين ،اي الى اراض ودول عربية جديدة . ان استعراضا تاريخيا سريعا للاحداث يؤكد ، ان الاطماع التوسعية الاسرائيلية تجاه العرب ، كانت على الدوام سياسة ثابتة لدي الحكومات الاسرائيلية كلها، بغض النظر عن هويتها العلمانيىة الليبرالية او الدينية المتطرفة . لذلك رفضت اسرائيل جهود السلام كلها مع الدول العربية ، وعارضت مبدأ الارض مقابل السلام ، وتُدمر اليوم مبدأ اقامة دولة فلسطينية ، وتتملص من رسم حدود دائمة ومعترف بها دوليا للدولة اليهودية . ولا بد من الاشارة خاصة ،الى ان انظار الصهاينة ، كانت دائما شاخصة نحو ثروات دول الخليج العربي ، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية . وقد اثارهذا التوجه الاسرائيلي مخاوف مشروعة في الرياض ، ودفعها للبحث عن وسيلة لمواجهة تلك الاخطار، تجلت في الاتفاق الدفاعي مع الباكستان .
ثانيا: تبنت اسرائيل على الدوام استراتيجة ابقاء العرب ضعفاء ، وعدم السماح لهم بامتلاك اية اسلحة تهدد الكيان الصهيوني . وعلى هذا الاساس اقرت تل ابيب مااسمته “بعقيدة ميناحيم بيغن ” الرامية ،الى منع الدول العربية من امتلاك الاسلحة النووية ، والحفاظ على هيمنة اسرائيل النووية في المنطقة . ولتحقيق ذلك ، دمرت اسرائيل المفاعل النووي العراقي عام 1981، واغتالت عشرات العراقيين من علماء الذرة . كما قتلت خيرة علماء مصر النوويين ، ودفعت باتجاه تفكيك البرنامج النووي الليبي عام 2003،وادعت عام 2007 ، انها دمرت مفاعلا نوويا سوريا . هذا السلوك الاسرائيلي اقنع الرياض – على الاقل الآن -، ان سعيها لامتلاك اسلحة غير تقليدية لمجابهة التحديات الاسرائيلية ، يمكن ان يضهعا في دائرة النار الاسرائيلية ، ولذلك اقدمت الرياض على خطوة بديلة – قد تكون مؤقتة، وهي التحالف العسكري مع دولة نووية اسلامية وهي الباكستان . وهذا التوجه ، يمكن ان يجنب البلاد، التبعات الخطيرة والتهديدات الناجمة عن امتلاك الرياض اسلحة نووية خاصة بها .
ثالثا : لقد ادركت الرياض ، ان تحالفها مع الولايات المتحدة لا يدرأ عنها الخطر الصهيوني . وذلك لسببين ، أولهما، ان نتنياهو بات يسيطر عمليا على السياسة الامريكية في الشرق الاوسط ويتحكم بها ، وثانيهما ، ان البنتاغون الامريكي ،قد زود الجيش الاسرائيلي بشيفرة الاسلحة الامريكية المتقدمة التي اشترتها السعودية من امريكا .وقد استخدت اسرائيل هذه الشيفرة اثناء عدوانها على الدوحة ،لشل منظومات الدفاع الخليجية كلها ، بما فيها القطرية .وهذا اقنع الرياض ، بان واشنطن لم تعد الحليف الموثوق الذي يساعدها في اوقات الشدة .
انتقل الان الى الاسباب التي دفعت اسلام اباد الى توقيع تلك الاتفاقية المذكورة مع الرياض . بداية اشير، الى ان القيادة الباكستانية ، كانت ترفض على الدوام ،مقولة ان القنبلة النووية الباكستانية هي قنبلة اسلامية ،هدفها الدفاع عن المسلمين ، وتتحدث دائما عن ان تلك القنبلة مخصصة لحماية الامن الوطني الباكستاني ،،وانها لن تُستخدم خارج هذا الاطار . وقد سمعت هذا التأكيد مرار من المسؤولين الباكستانيين . والسؤال الذي يطرح اليوم : ما الذي جعل الباكستان تغيير موقفها هذا ، وتقدم على اعارة مظلتها النووية للمملكة العربية السعودية ؟ هناك – برأ ي- عدة اسباب لذلك .على رأسها ، تنامي التحالف بين حكومة مودي الهندية المتطرفة ونتنياهو . ونذكٌر،ان العنوان العام لهذا التحالف ، هو العداء للمسلمين ومكافحة ” الارهاب الاسلامي ” . وكل من تل ابيب ودلهي تدعيان ،ان الباكستان باتت اليوم قاعدة للمتطرفين الاسلاميين . وهو ما يشكل ضغوطا اضافية على الباكستان .ولمواجهة ذلك ، تسارع حكومة اسلام اباد للانفتاح على الدول الاسلامية . فقد زادت من تقاربها مع اندونيسيا ، وطورت علاقاتها بشكل لافت مع تركيا ،حيث تم خلال العام المنصرم ، التوقيع على اتفاقات عسكرية مهمة جدا مع تركيا ،لانتاج الاسلحة وتبادل الدعم . واليوم جاء دور السعودية ، التي تحظى بمكانة خاصة في السياسة الباكستانية ، نظرا للعلاقات التاريخية بين البلدين . وهناك عامل آخر دفع اسلام اباد للاسراع على التقارب مع السعودية ، وهو ان تعميق التحالف بين مودي و نتنياهو ، يضطر الباكستان الى السعي الدائم لتطويرقدراتها الدفاعية ، بما في ذلك الاسلحة النووية ،لمواجهة الاعتداءات الهندية المتواصلة والمدعومة من جانب اسرائيل .وهذا السعي يتطلب اموالا طائلة ليست متوفرة في الخزينة الباكستانية . وقد وجدت الباكستان ،ان اتفاقا دفاعيا مع اغنى دولة في المنطقة ،سيوفر للجيش الباكستاني الامكانات المالية الضرورية لتطوير اسلحته الاستراتيجية .
واجمالا ، فان حرص الباكستان على التقارب مع الدول الاسلامية ، انما يأتي في اطار جهود اسلام اباد ، لاقامة ” ناتو اسلامي ” ، لمواجهة الاخطار الناتجة عن الحلف الهندي الاسرائيلي .
وهناك سبب آخر لانفتاح الباكستان عسكريا على الدول الاسلامية ، – بما فيها السعودية – ، ويتجلى في الموقف العدائي الذي تتخذه واشنطن حتى اليوم من الحكومة الباكستانية . وقد وصل العداء الامريكي هذا الى حد، فرض عقوبات امريكية مشددة على الباكستان ، كان اخرها عام 2024، عندما اقرت امريكا عقوبات مشددة على البرنامج الصاروخي الباكستاني .
ولا يمكن اغفال سبب اخر، دفع الحكومة الباكستانية الى اتباع سياسة نشطة ضد تهديدات اسرائيل للدول العربية ، وهو التضامن التاريخي التقليدي للشعب الباكستاني مع القضية الفلسطينية ، والذي لم يقتصر على مظاهرات التنديد فحسب ، بل تجلى ايضا في مشاركة الجيش الباكستاني الى جانب العرب ، في معظم الحروب التي حدثت في المنطقة ضد اسرائيل. هذه المشاعر الشعبية والرسمية المعادية لاسرائيل في باكستان ، سهلت على الحكومة الباكستانية التوقيع على معاهدة دفاع مشترك مع السعودية ـ التي تتعرض ليوم لتهديد اسرائيلي مباشر .
لهذه الاسباب مجتمعة ،قررت الحكومتان السعودية والباكستانية ،التوقيع على اتفاق دفاعي مشترك ، ستكون له مفاعيل كبيرة على التطورات في المنطقة والعالم .
19/9/2025