
كتب محمد خير الوادي :
يكثر الحديث في سورية هذه الايام ،عن ضرورة اعطاء الافضلية للتطور الاقتصادي كاساس للنهوض والتقدم . وقد اردت القاء الضوء – بعجالة – على تجربة الصين في هذا المجال ـ عل ذلك يكون مفيدا لاصحاب القرار .
بدأ الاصلاح الاصلاح الاقتصادي في الصين عام 1978 على يد دينغ شياو بنغ ، الذي تولى زعامة البلاد ،وورث اقتصادا شبه مدمر ، وشعبا منهكا فقيرا بسبب النهج المتشدد الذي مارسه ماو . لقد تجسد نهج ماو في حدثين كبيرين ، اولهما : ” القفزة الكبرى 1958-1962″ ، والتي رفعت شعار :اللحاق اقتصاديا بامريكا .واستخدمت كل وسائل العنف والشدة والتطرف في العملية الاقتصادية . وكما هو متوقع ، فقد تمخضت هذه ” القفزة “عن كوارث حقيقية ، ادت الى تدمير الاقتصاد الصيني، والتسبب في حدوث اكبر مجاعة عرفها التاريخ ، راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر .
والحدث الآخر هو” الثورة الثقافية ” التي شهدتها الصين في الفترة الممتدة من عام 1966 الى 1976 . وكان شعار هذه الثورة هو ” تنظيف ” الحزب الشيوعي من العناصر البورجوازية على يد شباب الحرس الاحمر . و كانت النتيجة مأساوية حقا .فقد تم تجميد التعليم لمدة اربع سنوات في المدارس والجامعات ، وتنسيب الطلاب في صفوف الحرس الاحمر . كما جرت عمليات اضطهاد غيرمسبوق بحق مئات الالاف من العلماء وكبار المختصين، بذريعة انهم من البورجوازية . ولم تسلم من موجات التدمير معظم اثار الصين ، التي تم القضاء عليها تحت يافطة “تدمير الارث الاقطاعي” . وفي كلا الحدثين ، كان التشدد الايديولوجى هو المهيمن ، اضافة الى رغبة ماو في الاستئثار بالسلطة وتصفية معارضيه .(وقد تحدثت عن هذه الاحداث ،وعن تجارب الصين التنموية بالتفصيل ، في كتابي الذي صدر بعنوان: ” تجارب الصين من التطرف الى الاعتدال” .
اعود ألان الى بداية الاصلاح في الصين . كان المهمة الاولى امام دينغ الذي اصبح زعيما للبلاد بعد وفاة ماو ، هي انتشال الصين من التخلف والفقر والفوضى ، والبدء بالنهوض الاقتصادي وتحقيق الاستقرار السياسي .ولانجاز ذلك ، اختط دينغ نهجا جديدا يخالف الماوية ، يقوم على التخفيف من نظرية الصراع الطبقي ، واتباع سياسة الاصلاح والانفتاح – اي اصلاح ما خربه تشدد ماو في الاقتصاد ، والانفتاح السياسي على القوى الليبرالية الصينية ، وتخفيف تدخل الحزب والسلطة في العملية الاقتصادية ، واعطاء الاقتصاد الاولوية في جهود الدولة داخليا وخارجيا ،وبناء التعاون مع الولايات المتحدة الامريكية .
واول خطوة قام بها دينغ كانت ،السعي الى جذب اموال المغتربين الصينيين في كل من هونغ كونغ ومكاو ،اضافة الى تايوان ، للمساهمة في تمويل خطط الاصلاح والنهوض الصينية . وقد تمكن دينغ من استقطاب مئات المليارات من هذه الاموال ، التي وضعت اللبنة الاولى في بناء الصين المتقدمة.والخطوة التالية ، تجلت ،في حرص دينغ الشخصي على الاطلاع على تجارب الدول الاسيوية الناجحة في التقدم الاقتصادي . ولذلك قام بزيارة كل من ماليزيا وسنغفورة ، واصغى باهتمام الى تجربة مهاتير محمد التنموية ،الذي نصحه بالبدء في احداث مناطق تنموية تجريبة ، يتم فيما بعد تعميم الانموذج الناجح منها ، واستبعاد تلك التي اخفقت .كما التقى عدة مرات مع زعيم تجربة اصلاحية اخرى في سنغافورة ،هو ،لي كوان يو ، الذي اقترح على دينغ التخلي عن الصراع الطبقي ، والاتفتاح الفوري على الولايات المتحدة ، والتراجع عن نهج العداء معها .وبناء على تلك النصيحة ، زار دينغ امريكا عام 1979، وتناول شرائح الهمبرغر امام الكمرات ، وارتدى لباس رعاة البقر ، وقدم رسائل طمأنة للشركات الامريكية بهدف جذبها الى السوق الصينية . وقد استغل الزعيم الصيني عداء بكين – انذاك – للاتحاد السوفياتتي من اجل التقارب السياسي مع امريكا .وكانت النتيجة تدفق مئات المليارت من الاستثمارات الغربية على الصين ،ورفع القيود عن دخول التقانة الغربية المتقدمة الى السوق الصينية .ومن اجل اقناع الحزب الشيوعي الصيني باهمية الاصلاح ، طرح دينغ عدة مقولات ، باتت الموجه الرئيس لسياستة التي استمرت نحو اربعين عاما . من هذه المقولات :
– ليس مهما لون القط ان كان احمرا او اسودا ، المهم ان يصطاد الفئران.
– لابد من اتباع سياسة التدرج في التنمية الاقتصادية والابتعاد عن نهج الصدمات ، فالخطوات المتسرعة تهدد بانهيار بناء الاصلاح كله .
– ان الشرط الاساسي لنجاح الاصلاح مرتبط بتأييد الشعب له ،وهذا الامر لن يتحقق مالم يلمس الناس فوائد الاصلاح وثمراته في الحياة اليومية .
– ان الاصلاح يكون احيانا مؤلما للجمهور، ومهمة الدولة هي السعي لتخفيف هذا الالم قدر المستطاع .
لقد ادخل دينغ كذلك اصلاحات مهمة الى البناء السياسي الصيني ، اهمها عدم تدخل الدولة والحزب في الشؤون اليومية للعملية الاقتصادية ، وترسيخ مبدأ القيادة الجماعية لمنع انفراد شخص ما بالسلطة ومنع تكرار تجربة ماو تسي تونغ ، وكذلك مبدأ تداخل اجيال القيادات الصينية لاستمرار نهج الاصلاح .
لقد ارست الاصلاحات السياسية والاقتصادية التي اختطها دينغ شياو بينغ ،دعائم قوية لبناء الصين المتقدمة ،ووفرت لها الشروط المناسبة لتصبح المنافس الاول للولايات المتحدة الامريكية .
1/11/2025
