https://alwadiforasianstudies.com/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

بلال التليدي

في زيارتي للولايات المتحدة ضمن فعاليات الزائر الدولي سنة 2010، لفت انتباهي الاهتمام الأمريكي الكثيف بالأقليات والإثنيات، والعدد الهائل من المكاتب التمثيلية لمختلف الطيف الإثني والديني في العاصمة واشنطن، وسمعت طيلة الزيارة التي خصصت للحوار بين الأديان والتعرف على التعددية الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية، أسطوانة متكررة تحاول تفسير هذه الظاهرة في علاقة بالنموذج الديمقراطي الأمريكي، وأنه يقوم على احترام حقوق الأقليات وضمان الحريات الدينية، وأنه لهذا الغرض، تتابع الخارجية الأمريكية وضع الحريات الدينية ووضع الأقليات في العالم، وتصدر تقريرين سنويين خاصين بكل دولة على حدة، الأول يتابع وضعية حقوق الإنسان بشكل عام، والثاني، يتابع وضعية الحرية الدينية بشكل خاص.

ولدى استقرائي لأكثر من عشرين تقريرا للخارجية الأمريكية حول وضعية الحريات الدينية بالمغرب صدرت بشكل متتال منذ أن أصدر الكونغرس الأمريكي سنة 1998 قانونا يلزم الخارجية الأمريكية بأن تحيل عليه تقريرا سنويا حول الحريات الدينية الدولية، تأكد لدي بأن الأجندة التي تحكم الولايات المتحدة الأمريكية في تعاطيها مع قضية الحريات الدينية هو خلق أقلية مسيحية إنجيلية بالمغرب تتمتع بنفس الوضع القانوني الذي للطائفة اليهودية، ومن ثمة، ممارسة قدر كبير من الضغط لتغيير النظام الدستوري المغربي، وبشكل خاص موقع الإسلام في البناء الدستوري والتشريعي، بما يعني ذلك إنهاء الشرعية الدينية للدولة (إسلامية الدولة) والقطع مع نظام إمارة المؤمنين، لصالح دولة علمانية، حيادية.

المفارقة، أن هذه الاستراتيجية الأمريكية التي تستعمل ورقتي الحرية الدينية والأقليات الدينية والإثنية كمدخل للضغط على الدول والتدخل في قرارها السيادي، وربما الاشتغال على أجندة التقسيم، تتبنى السياسة الإسرائيلية نفس مفرداتها، فنجد باحثا معروفا في مركز موشيه دايان هو بريس مادي وايزمان، نذر نفسه منذ أكثر من ثلاثين عاما لدراسة الشأن المغاربي، وبشكل خاص المسألة الأمازيغية، يكتب كتابا بعنوان: «الهوية البربرية»، فضلا عن عشرات من المقالات والأوراق البحثية حول الهوية الإثنية للمغرب، والتوترات الإثنية والسياسية في المنطقة المغاربية، ويبلور بشكل جد مبكر، أطروحة إثنية، تعتبر أن المغرب لما كانت هويته أمازيغية، لم يكن له أي مشكل مع إسرائيل، وأن المشكلة بدأت حين بدأ المغرب يبتعد عن هذه الهوية، ويقترب من الهوية العربية الإسلامية، وأن مدخل إصلاح العلاقة بين المغرب وإسرائيل (التطبيع) يمر ضرورة عبر إحياء الهوية الأمازيغية، وأن أكبر عائق يمنع ذلك هو الحركات الإسلامية والقومية، لأنها في اعتقاده تمارس ضغطا على السلطة وتمنعها من التقدم إلى التطبيع.

ملخص أطروحة هذا الباحث الإسرائيلي، هو العمل على إيجاد حليف داخلي يقوم بدور إزالة العائق النفسي والفكري أمام التطبيع الإسرائيلي المغربي، وأن المرشح للقيام بهذا الدور هو الفاعل الأمازيغي على أساس أن يضطلع ببث خطاب منافس ومقاوم لخطاب الحركة الإسلامية والحركات القومية، ويقنع الجمهور بأن قضية الصراع العربي الإسرائيلي هي شأن لا يعني المغرب الأصيل (ذي الهوية الأمازيغية).

يقدم هذا الباحث في دراسته «إسرائيل والعلاقات مع الدول المغاربية حقائق إمكانات» (2009) عدة دواع للرهان الإسرائيلي على الحركة الأمازيغية، منها كونها ليست معنية بالدفاع عن الرصيد الحضاري العربي الإسلامي ولا ملتزمة باستحقاقاته، وأنها تستلهم خطابها من النموذج الغربي الكوني، وتتبنى فكرة سمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية، ولأنها تعني بمشاكل الوطن الحقيقية وليس قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ولأنها لا تتبنى خطابا معاديا لإسرائيل.

 

تقوم الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية على خلق التنافر بين مكونات الوطن، والعمل على جعل الاندماج الوطني أمرا مستحيلا

 

هناك من سيدفع بحجة أن الأمازيغ يشكلون الأكثرية لا الأقلية بالمغرب، لكن، هذا بالتقدير الإثني وربما الديمغرافي والتاريخي، لكن في واقع الأمر، هناك اندماج بين مكونات الطيف الإثني بالمغرب، سواء على مستوى الموقف الوطني أو على مستوى الموقف من القضية الفلسطينية، وهدف تل أبيب هو استعمال الهوية الإثنية لضرب هذا الاندماج الوطني ومحاولة إحداث فرز على مستوى الموقفين معا، حتى يتأسس القول بحيادية المغرب عن قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ويكون له مستند من الهوية التاريخية، وينشأ تبعا لذلك انقسام مجتمعي يكون الموقف من إسرائيل حافزه ومغذيه، ولعل رفع شعار «تازة قبل غزة» في أوساط بعض النخب، يبرز إلى حد كبير النجاح النسبي لهذه السياسة الإسرائيلية، فتشكل ذلك هذه النخب الأقلية المدعومة التي يراهن على تاريخية الهوية الأمازيغية المغربية لجعلها بعد ذلك الأغلبية الحاسمة.

نورد هذه الخلفية الإثنية لنفهم بشكل أكثر تفصيلا رهانات تل أبيب على الدروز في سوريا ودفعها بذريعة حماية الأقليات لابتزاز النظام السوري وإرغامه على توقيع اتفاق أمني مع إسرائيل، يؤمن لها بقاء منطقة السويداء بعيدة عن سلطة الجيش وقوات الأمن السورية، وكيف تمسك تل أبيب بهذه الورقة لتحقيق أكثر من رهان استراتيجي.

من الواضح، أن الأفق الاستراتيجي البعيد لتل أبيب هو تقسيم سوريا إلى كنتونات إثنية، وخلق دويلات إثنية كردية ودرزية وعلوية، وأن مطلبها الآني، هو خلق حزام أمني متوغل أكثر في الأراضي السورية على تخوم الجولان المحتل، وتشكيل حليف قوي داخل هذه المنطقة، يعتمد أساسا على الأقلية الدرزية. ولذلك، كلما اقتربت الدولة السورية من تحقيق هدف بسط يد الدولة على كل الأراضي السورية، واندماج كل الأقليات في الدولة الوطنية، تحركت تل أبيب بكل قوة، لأن نقيض استراتيجيتها في سوريا هو أن تتأسس الدولة الوطنية في سوريا وتؤمن وحدة ترابها، وأن يمتد نفوذها لكل الأراضي السورية، وأن تندمج الأقليات ضمن نسيجها الوطني.

تقوم الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية على خلق التنافر بين مكونات الوطن، والعمل على جعل الاندماج الوطني أمرا مستحيلا، والاقتراب من الأقليات والإثنيات، ومحاولة تشجيعها على الانفصال أو على الأقل الخروج عن النسيج الوطني.

في المثال العراقي، انتقد الكثيرون سياسة واشنطن وكيف اتجهت بحمق نحو تقويض بنية الدولة (الجيش، الأمن، الإدارة عبر استهداف كوادر حزب البعث أو المقربين منه) لكنهم لم يفهموا في الجوهر العمق الاستراتيجي الأمريكي، فواشنطن كانت تدرك أنه ليس بعد سقوط الدولة سوى انتعاش الطائفية والإثنيات، ورهن مصير أمة بصراعات وميليشيات لا تنتهي، والحكم على حلم بناء الدولة والأمة الموحدة بالإعدام.

في الواقع، تتكيف الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية في الرهان على قضية الأقليات، فليس القصد دائما أو ابتداء هو تقويض الدولة، وخلق حالة فوضى إثنية وطائفية، فهذه الحالة يتم اللجوء إليها حين تكون شروطها ناضجة كما في المثال العراقي، لكن في المثال السوري، تتجه الاستراتيجية الإسرائيلية إلى منع اكتمال عقد الدولة، أي عرقلة سعيها نحو توحيد مواطنيها وإدماج أقلياتها، وفي المنطقة المغاربية، أقصى ما كانت ترجوه الاستراتيجية الإسرائيلية هو خلق حليف لها (الحركة الأمازيغية) يعينها على إيجاد مدخل للتطبيع، لكن هذا التكيف والاستيعاب لخصوصيات المناطق العربية الإسلامية، لا يعني الجمود على هدف واحد، فكلما تحقق الهدف القريب، تم المرور لما هو أبعد منه، حتى يصير الهدف المركزي أي تقويض الدولة، أو خلق الفوضى، أو التقسيم واجب الوقت بالنسبة للسياسة الإسرائيلية.

في السويداء، فشلت تل أبيب في تحقيق رهاناتها، رغم الضربات العسكرية التي استهدفت الرموز السيادية للدولة السورية، لكنها أبدا، ستستمر في اللعب بورقة الدروز حتى تحقق هدفها القريب، أي جعل المنطقة منزوعة السلاح، وإبعاد الجيش وقوات الأمن التابعة للنظام السوري عنها، وفرض واقع منطقة أمنية تراقبها إسرائيل يوميا، وتمنح نفسها حرية الحركة كلما قدرت أن تهديدا ما يقترب منها.

وفي المغرب لن يتوقف مخطط تقسيم المغرب على أساس إثني، ولا يخبو جزء من هذا الرهان إلا لأن الأهداف القريبة لم يكتمل تحقيقها، وحالما تصير واقعا يقترب هدف التقسيم أكثر.

ما ينبغي أن يستوعبه صناع القرار السياسي العربي، أن ورقة الأقليات والإثنيات ستكون مكلفة إن لم يتم تأطيرها دستوريا وتشريعيا، بما يلزم من القواعد التي تقوي الاندماج الوطني في الدولة، وحقوقيا وثقافيا، بما يحصنها من الاقتراب من العدو الخارجي. القدس العربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × خمسة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube