حامد خسروشاهي
بعد ان وقعت أرمينيا وأذربيجان على اتفاق سلامٍ طال انتظاره، عادت قضية ممرّ زنغزور إلى الواجهة، بعد إعلان نائب وزير الخارجية الأرميني عن احتمال منح إدارة هذا الممرّ الإستراتيجي لشركة أجنبية.
هذه التصريحات، وإن قُدِّمت في قالب «دراسة فنية»، كشفت من جديد أنّ زنغزور لم يعد مجرد ملف حدودي بين يريفان وباكو، بل تحوّل إلى ساحة صراع بين القوى الإقليمية والدولية، من روسيا وإيران إلى تركيا والولايات المتحدة، وصولًا إلى الصين.
النزاع حول زنغزور لا يمكن فصله عن السياق التاريخي الأوسع للصراع الأرميني- الأذري، ولا عن توازنات ما بعد حرب “قره باغ” الثانية 2020، فقد غيرت تلك الحرب موازين القوى على الأرض، ودفعت أرمينيا إلى موقع دفاعي
التسريب الأرميني تزامن مع لقاء جمع الرئيس الأذري إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في أبوظبي؛ لقاء اعتُبر على نطاق واسع محاولةً لإزالة العقبات أمام إعادة فتح هذا الممر الحيوي، الذي من شأنه أن يربط أذربيجان بمقاطعة نخجوان من دون المرور بإيران، ويعيد تشكيل خريطة العبور في المنطقة.
رغم تأكيد الحكومة الأرمينية تمسكها بالسيادة الكاملة على أراضيها، ورفضها استخدام مصطلح «ممرّ» بمعناه العابر للحدود، فإن طرح فكرة إشراك طرف ثالث أجنبي في الإدارة اللوجيستية أثار كثيرًا من التساؤلات. فالمعارضون في الداخل رأوا فيه تهديدًا مباشرًا للسيادة، في حين فسّرته أطراف خارجية باعتباره مقدّمةً لتدويل الممرّ، وإبعاده عن النفوذين الروسي والإيراني.
تشير التقارير الغربية إلى أن خطة إشراك شركة أميركية في تشغيل الممر طُرحت أولًا خلال الولاية الأولى لدونالد ترامب، وأُعيد إحياؤها اليوم مع عودته إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية.
هذه الخطة تمنح باكو ضمانةً أمنية، وتسمح لها بتقليص الاعتماد على طهران وموسكو، وفي الوقت ذاته تمثّل مكسبًا جيوسياسيًا للولايات المتحدة في نقطة يتقاطع فيها مشروع «الحزام والطريق» الصيني مع مشاريع الممرات الروسية والإيرانية.
ومن المهم الإشارة إلى أن النزاع حول زنغزور لا يمكن فصله عن السياق التاريخي الأوسع للصراع الأرميني- الأذري، ولا عن توازنات ما بعد حرب “قره باغ” الثانية 2020، فقد غيرت تلك الحرب موازين القوى على الأرض، ودفعت أرمينيا إلى موقع دفاعي، ما زاد من اعتمادها على قوى خارجية لضمان أمنها، ولا سيما مع التراجع النسبي في الدور الروسي؛ بسبب انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا.
في هذا الفراغ، تحاول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تقديم نفسيهما كبديل سياسي وأمني، وهو ما يقابَل بتحفظ إيراني حاد، وقلق روسي متزايد.
يرى مراقبون أن التصريحات الأرمينية الأخيرة لا تمثّل قرارًا نهائيًا بقدر ما تشكّل اختبارًا لردود فعل العواصم المعنية، من طهران وموسكو إلى بكين، وكذلك رسالة إلى باكو بأن يريفان مستعدة للتفكير خارج الأطر التقليدية
في المقابل، تنظر تركيا إلى ممرّ زنغزور بوصفه جزءًا من رؤيتها الأوسع لربط العالم التركي من أنقرة إلى آسيا الوسطى عبر جنوب القوقاز، فيما تسعى الصين إلى الحيلولة دون تهميش ممرات مشروع «الحزام والطريق» في المنطقة.
أما بالنسبة لإيران، فإن فقدان الاتصال المباشر مع أرمينيا يُعَدّ تهديدًا إستراتيجيًا لمكانتها الجيوسياسية؛ ولذلك تبذل جهودًا مكثّفة لتمويل وربط شبكات نقلٍ بديلة عبر أراضيها، بما يضمن استمرار دورها كممرّ رئيسي بين الشرق والغرب. هذه الشبكة المعقدة من المصالح تجعل من زنغزور أكثر من مجرد مسار نقل؛ إنه ساحة حساسة تتقاطع فيها حسابات القوى الكبرى والإقليمية.
ومع أن واشنطن ترى في إشراك شركة أميركية فرصة لتوسيع نفوذها في منطقة تميل تقليديًا نحو موسكو وطهران، فإن العقبات أمام ذلك ليست قليلة.
فالقانون الأرميني يمنع تأجير الأراضي العامة لأطراف أجنبية لفترات طويلة من دون موافقة البرلمان، والمعارضة في يريفان أعلنت بوضوح رفضها هذا المسار. كما أنّ طهران تعتبر فتح «ممرّ زنغزور» على حساب حدودها مع أرمينيا خطًا أحمر، وقد أظهرت استعدادها للرد عبر المناورات العسكرية ومشاريع بديلة كـ«ممرّ أرس». أمّا موسكو، التي تمرّ علاقتها مع باكو بمرحلة توتر، فمن غير المتوقع أن تتقبّل بسهولة تقليص حضورها في منطقة تعتبرها مجالًا حيويًا لها.
انطلاقًا من هذه المعطيات، يرى مراقبون أن التصريحات الأرمينية الأخيرة لا تمثّل قرارًا نهائيًا بقدر ما تشكّل اختبارًا لردود فعل العواصم المعنية، من طهران وموسكو إلى بكين، وكذلك رسالةً إلى باكو بأن يريفان مستعدة للتفكير خارج الأطر التقليدية إذا ما توفرت ضمانات اقتصادية وأمنية كافية.
زنغزور، إذن، لم يعد مجرد ممر جغرافي، بل غدا عقدة جيوسياسية تجسّد التحولات الكبرى في موازين القوى داخل القوقاز. وليس مُستبعَدًا أن تحدّد كيفية إدارة هذا الممر مستقبل التوازن بين الشرق والغرب في هذه المنطقة الحساسة، ولا سيما في ظل تنافس المشاريع الصينية والروسية والأميركية على السيطرة على طرق التجارة والنفوذ السياسي في آسيا الوسطى ومحيطه
وفق شبكة «سي بي إس»، فإنّ الاتفاق يمنح الولايات المتحدة حقوق تطوير ممرّ يمتدّ بطول 43 كيلومتراً في الأراضي الأرمينية، وسيُطلق عليه اسم «مسار ترمب للسلام والازدهار الدوليين» أو «تريب».
تاريخ الصراع
منذ عام 1988 إلى عام 1994، ومرة أخرى في عام 2020، خاضت أرمينيا وأذربيجان حروباً على منطقة ناغورنو قره باخ المتنازع عليها، وهي منطقة ذات سيادة أذربيجانية حيث عاش الأرمن المسيحيون والأذربيجانيون المسلمون جنباً إلى جنب قبل أن تندلع الصراعات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
وكانت أذربيجان وأرمينيا وافقتا في مارس (آذار) على نص اتفاق سلام شامل. لكن أذربيجان قدّمت بعد ذلك عدداً من الطلبات قبل توقيع الوثيقة، لا سيما إدخال تعديلات على دستور أرمينيا لإزالة أي مطالبة بمنطقة ناغورنو قره باخ.
وقامت روسيا بدور الوسيط خلال هذا الصراع الطويل، وكان الرئيس فلاديمير بوتين يدعو بانتظام قادة أذربيجان وأرمينيا في الكرملين. وفي عام 2020، توسط الزعيم الروسي في وقف إطلاق النار الذي عدّه الكثيرون انتصاراً دبلوماسياً. ونشرت روسيا 1960 جندياً من قوات حفظ السلام في المنطقة، مما منح موسكو موطئ قدم أكثر رسوخاً في منطقة استراتيجية.
لكن اهتمام الرئيس بوتين بهذا الصراع تراجع في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، وبدأ نفوذ روسيا في الصراع يتضاءل. وتحرّكت أذربيجان بحزم عام 2023 للسيطرة على كامل منطقة ناغورنو قره باخ، مما أجبر نحو 100 ألف أرمني على مغادرة منازلهم. وفي أبريل (نيسان) من العام الماضي، بدأت قوة حفظ السلام الروسية بالانسحاب، بينما سارعت أذربيجان لإعادة بناء المنطقة في محاولة لمحو آثار تراثها الأرمني.