صلاح حسن إبراهيم
مع عودة عقوبات مجلس الأمن الدولي لتلقي بظلالها على إيران، تجد طهران نفسها مرة أخرى عند مفترق طرق إستراتيجي؛ فالقرار الذي أعيد تفعيله (آلية سناب باك) يفرض ضغوطا اقتصادية وعسكرية شديدة، مما يدفع القيادة الإيرانية إلى إعادة تقييم خياراتها والبحث عن سبل للرد والمناورة في ساحة دولية معقدة.. لم تعد القضية مجرد مواجهة سياسية، بل أصبحت اختبارا لقدرة إيران على الصمود والتكيف في وجه عزلة متجددة.
يعاني الاقتصاد الإيراني من ضغط هائل؛ فقد شهد الريال الإيراني انخفاضا قياسيا، وارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير، مما يؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين اليومية، ويزيد من احتمالية تفجر اضطرابات اجتماعية
المسار الدبلوماسي: إعادة التموضع وحشد الحلفاء
على الصعيد الدبلوماسي، لم تقف إيران مكتوفة الأيدي؛ وتمثل أول ردود الفعل في خطوات رمزية قوية، مثل استدعاء سفرائها لدى الدول الأوروبية الرئيسية (ألمانيا، فرنسا، بريطانيا) للتشاور، في رسالة واضحة مفادها أن العلاقات الدبلوماسية لن تسير كالمعتاد.
وتتهم طهران هذه الدول بالرضوخ للضغوط الأميركية و”دفن الدبلوماسية”، معتبرة أن إعادة فرض العقوبات إجراء “باطل قانونيا ومتهور سياسيا”.
لكن إيران تسعى من وراء الخطاب الحاد إلى تعزيز محورها الدبلوماسي البديل؛ ويبرز هنا دور الحليفين التقليديين، روسيا والصين، اللذين عارضا بشدة آلية “سناب باك” في مجلس الأمن.
وستعتمد طهران بشكل متزايد على هذين العملاقين لتعطيل الإجماع الدولي ضدها، وتوفير متنفس سياسي واقتصادي.
كما تعد منظمات مثل “منظمة شنغهاي للتعاون” و”مجموعة بريكس” منصات حيوية لإيران لتعميق شراكاتها شرقا، وكسر حدة العزلة التي تفرضها العقوبات الغربية.
ستعمل إيران على تنشيط وتوسيع شبكاتها التجارية غير الرسمية، واللجوء إلى مقايضة النفط بالسلع، واستخدام عملات غير الدولار في معاملاتها للتحايل على القيود المصرفية
الاقتصاد المقاوم: إستراتيجيات البقاء والتحايل
اقتصاديا، تمتلك إيران خبرة طويلة في التعامل مع العقوبات، وقد طورت على مر السنين ما يعرف بـ”اقتصاد المقاومة”. وترتكز هذه الإستراتيجية على عدة محاور:
الاعتماد على الذات: تسعى الحكومة لتعزيز الإنتاج المحلي في القطاعات الحيوية؛ لتقليل الاعتماد على الواردات التي ستصبح أكثر كلفة وصعوبة.
شبكات التجارة البديلة: ستعمل إيران على تنشيط وتوسيع شبكاتها التجارية غير الرسمية، واللجوء إلى مقايضة النفط بالسلع، واستخدام عملات غير الدولار في معاملاتها للتحايل على القيود المصرفية.
الممرات التجارية الإستراتيجية: يعد “ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب” (INSTC) مشروعا ذا أهمية إستراتيجية قصوى، حيث يوفر لإيران طريقا تجاريا حيويا يربطها بروسيا، والهند، وآسيا الوسطى، بعيدا عن الممرات البحرية الخاضعة للرقابة الغربية.
على الرغم من هذه الإستراتيجيات، يبقى الاقتصاد الإيراني تحت ضغط هائل؛ فقد شهد الريال الإيراني انخفاضا قياسيا، وارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير، مما يؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين اليومية، ويزيد من احتمالية تفجر اضطرابات اجتماعية.
تواجه إيران مرحلة دقيقة، تتطلب منها توازنا صعبا بين الصمود في وجه الضغوط، وتجنب الانزلاق نحو مواجهة شاملة
الخيار النووي والأمني: تصعيد محسوب
يمثل الملف النووي ورقة الضغط الأهم في يد طهران، ورغم تأكيد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن بلاده “لن تسعى أبدا لامتلاك أسلحة نووية”، فإن التهديدات بالرد لا تزال قائمة.. ومن بين الخيارات المطروحة:
تقليص التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية: قد تحد إيران من وصول المفتشين الدوليين إلى منشآتها النووية، مما يزيد من حالة الغموض والقلق الدولي بشأن طبيعة برنامجها.
زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم: كخطوة تصعيدية، قد ترفع إيران من درجة نقاء اليورانيوم المخصب، مقتربة أكثر من العتبة اللازمة للاستخدامات العسكرية، كوسيلة للضغط على القوى الغربية للعودة إلى طاولة المفاوضات بشروط أفضل.
الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT): يعد هذا الخيار هو الأكثر خطورة وتطرفا، وسيمثل قطيعة شبه كاملة مع المجتمع الدولي، وقد يدفع المنطقة نحو سباق تسلح خطير.
وإلى جانب الملف النووي، يشمل الرد الأمني المحتمل تعزيز الأنشطة في مجال الصواريخ الباليستية، التي تعتبرها إيران ركيزة أساسية في عقيدتها الدفاعية، وزيادة الدعم للحلفاء الإقليميين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
مستقبل غامض ومسارات متشابكة
تواجه إيران مرحلة دقيقة، تتطلب منها توازنا صعبا بين الصمود في وجه الضغوط، وتجنب الانزلاق نحو مواجهة شاملة.
خياراتها متعددة، من الدبلوماسية الهادئة مع الحلفاء إلى التصعيد المحسوب في برنامجها النووي، مرورا بمحاولات حثيثة لتدوير عجلة الاقتصاد تحت الحصار.
إن المسار الذي ستختاره طهران في الأسابيع والأشهر المقبلة لن يحدد مستقبلها فحسب، بل سيعيد تشكيل خريطة التحالفات والتوازنات في منطقة الشرق الأوسط والعالم.
