
كتب محمد خير الوادي :
كثر مؤخرا الحديث عن تجربة سنغافورة التنموية ، ومدى استفادة سوريا منها .وازعم ، انني اعرف بعض جوانب هذه التجربة ، التي سأرويها بعجالة للسادة القراء . ومعرفتي بسنغافورة ، بدأت من اهتمامي الصحفي خلال اربعة عقود . فقد زرت ذلك البلد عدة مرات ، والتقيت صانع نهضته الحديثة لي كيوان يو عدة مرات ، ونشرت مضمون هذ اللقاءات في كتاب صدر لي قبل ثلاث سنوات عنوانه ” لقاءات مع قادة من آسيا ” . اضافة الى انني كتبت كثيرا من المقالات عن سنغافورة وصانع معجزتها .
من العدل ان اشير الى ان هذا البلد الاسيوي قد انجز معجزة حقيقية تجلت ،في انتزاع الشعب السنغافوري من براثن التخلف والمخدرات والصدامات الوطينة . وقد تمكن السنغافوريون من بناء دولة متقدمة من الطراز الاول في العالم .ولن اتحدث عن ذلك ، لانني كتبت كثيرا عن انجازات سنغافورة ، كما ان اجهزة الاعلام والتواصل الاجتماعي تعج بمواد مماثلة.
اريد ان ألفت الانتباه الى بعض النقاط التي تغيب – عادة – عند الحديث عن التجربة السنغافورية .
اولى هذه التقاط ، هي ،ان الرئيس لي استمر في الحكم طيلة ثلاثيتن عاما ، وانه قد عين احد ابنائه رئيسا للوزراء ، والابن الاخر زعيما للمعارضة ، وذلك من اجل – كما قال ليو – توفير الظروف اللازمة للاستقرار، وضبط مسار التنمية وضمان عدم انحرافها وانهيارها . ولما سألته عن ذلك اجاب :وما الغريب في الامر ، اذا كان الهدف الاساسي هو عدم الاثراء الشخصي للحاكم، و تنمية البلاد وتحسين ظروف معيشة الشعب ،والتصدي الدائم للفساد ( هو صاحب مقولة ، ان غسل سلم الفساد يبدأ من الاعلى وليس من الدرجات السفلية ). وللحقيقة اقول ، انه قد التزم بذلك .
النقطة الثانية ، ان الزعيم ليو كان ينظر بشك عميق الى الديمقراطية الغربية ، وان الغرب قد اتهمه مرارا بالتعدي على حقوق الانسان . صحيح ان ليو قد اشاد نظاما ديمقراطيا برلمانيا على النمط الغربي ، ولكن الصحيح ايضا ،انه قد اسس حزبا لا يزال يحكم حتى الآن ، وانه قد قلص الحريات العامة ،بما في ذلك حرية اجهزة الاعلام المحلية ،وفرض انضباطا غير مسبوق في عمل اجهزة الدولة وموظفيها . وحسب وجهة نظره ، فان السنغافوريين لا يملكون ترف هدرالوقت على الثرثرة السياسية والصدامات الحزبية الفارغة ، وان المطلوب العمل ،والعمل المستمر والجاد ، الذي يفضي الى انجازات تخدم مصلحة الشعب .
النقطة الثالثة التي وددت ان اشير اليها حول التجربة السنغافورية هي ، ان قيادة ذلك البلد ، قد وازنت – آنذاك –بدقة بين النفوذين الصيني والامريكي والغربي عامة ، وتمكنت من تحويل هذا البلد الصغيرالى نقطة التقاء بين الدول الكبرى ، وليس الى جبهة صدام بينها ، عبراعتماد سياسة عدم الانحياز الفعلي ، ومد الجسور مع الجميع . وقد ساعدها في ذلك ، ان سنغافورة لم تكن تعاني من كيان عدواني طامع ومحتل مثل اسرائيل . ثم ان امريكا كانت مختلفة عن امريكا ترامب اليوم . وكانت الصين مشغولة في تنمية نفسها .باختصار ، كان الظرف الدولي مغايرا ومشجعا على التعاون ،ولا يعاني من موجات التوتروالجنون وعدم العقلانية ،التي تجتاح العالم الآن .
هذه النقاط يجب ان نأخذها بعين الاعتبار لدى الحديث عن التجربة السنغافورية ، وان لا نكتفي فقط ،بايراد ارقام النمو المذهلة الت حققها هذا البلد الآسيوي الصغير .
15/4/2025