https://alwadiforasianstudies.com/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلف: محمود عبد الفضيل

 

يمكن اعتبار هذا الكتاب أهم قراءة عربية صدرت حتى الآن حول تجربة النمور الآسيوية, وحول الدروس التي يمكن للعرب أن يستفيدوا منها في سياق البحث عن سبل التنمية والنهوض المنشود. وتكمن أهمية الكتاب في أن تجربة التنمية الآسيوية شغلت العالم وما زالت تشغله حتى الآن, وفي كون الباحث الدكتور محمود عبد الفضيل ليس مختصا في الحقل الاقتصادي فحسب باعتباره رئيس قسم الاقتصاد في جامعة القاهرة, بل وأيضا في أن دراسته هذه قد جاءت نتيجة زيارات بحث ميدانية لدول منطقة شرق آسيا, كوريا الجنوبية, وسنغافورة, والصين, وماليزيا, وتايلند, وهي الدول التي يتناولها الكتاب. وفي هذه الجولات التقى الباحث بالمخططين التنمويين وصانعي السياسة والأكاديمين الذين صنعوا أو راقبوا النهوض الآسيوي المدهش في الحقب الثلاث الماضية. والسؤال المركزي الدي يطرحه المؤلف مند البداية هو كيف تحولت منطقة شرق آسيا من حالتها المزرية في حقبة الستينيات من القرن العشرين وهي الحالة التي كان يصفها أكاديميون بأنها “المأساة الآسيوية” بسبب الفقر والتخلف الاقتصادي, إلى حالة “المعجزة الآسيوية” كما صارت تصفها الأدبيات الاقتصادية وتقارير البنك الدولي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي نفسه؟ كيف أمكن لدول ومجتمعات تلك المنطقة أن تسابق الزمن وتحقق قفزة تنموية واقتصادية ونهضة شاملة في أقل من ثلاثين سنة؟ ولماذا لم تتمكن الدول العربية, التي كان عدد منها أكثر تقدما وتنمية من البلدان الآسيوية في الستينيات من إحداث نهضة وتنمية شبيهة؟ وهل الانبهار بتلك التجربة مبرر, خاصة بعد أن وصفها كثيرون بأنها كانت مجرد فقاعة اقتصادية, وأن البلدان المعنية لم تكن سوى نمور من ورق.

وبين الانبهار بالتجربة الآسيوية ووصفها بالمعجزة ثم وصفها بأنها تجربة لنمور ورقية جراء الأزمة المالية التي عصفت بها سنة 1997, يتبنى عبد الفضيل موقفا وسطيا, يركز فيه على “استخلاص دروس النجاح الحقيقية في التحربة, دون أن ترفع تلك التجربة بالضرورة إلى مرتبة “المعجزة”. وهو يرى أنه “لا بد من الكشف عن عناصر الضعف والهشاشة في تلك التجربة, لكي يتم وضعها “في الميزان” بشكل موضوعي بإيجابياتها وسلبياتها, دون مبالغة أو تهوين من حجم النهوض والإنجاز, في إطار الظروف التاريخية التي أحاطت بتلك التجربة” (ص21).

يركز عبد الفضيل على ما يسميه بالقضايا المتعلقة بالعلاقات ااديناميكية والمتبادلة بين عمليات التنمية الزراعية وعمليات التنمية الصناعية, في ظل الإطار التقني والمؤسسي السائد في آسيا, وذلك في سياق محاولته تفكيك الأطروحة الكلاسيكية, شبه الأرثوذكسية, في نظريات علم الاقتصاد الراهن والتي تقول بـ “حتمية آليات السوق” في إحداث التنمية. فهنا يلتفت عبد الفضيل إلى الدور المركزي الذي تلعبه الأوضاع المؤسسية في تلك المجتمعات, وبخاصة العادات والأعراف للمجتمعات المحلية, معطوفة على تخلف مؤسسات وعلاقات السوق في تلك البلدان. وهي الجوانب التي لم يهتم بها كثيراً الفكر الاقتصادي التنموي القادم من الجامعات ومراكز البحث في الولايات المتحدة وأوروبا. (ص20).

 

تجارب دول النمور الخمس:

ويستعرض المؤلف في القسم الأول من الكتاب تجارب الدول الخمس المذكورة أعلاه في فصول منفصلة, متابعا تطورها التاريخي ومعالم نهجها التنموي والاقتصادي. ويخصص القسم الثاني لتحليل السياسات الإنمائية في هذه البلدان, ثم يصل إلى القسم الثالث والأهم وهو “العرب والدروس المستفادة من تجربة التنمية والنهضة في بلدان جنوب شرق آسيا”. وفي توصيفه لاقتصاديات البلدان التي تحت الدراسة, يلحظ المؤلف أن سنغافورة, صغيرة المساحة, 259 كلم مربع فقط, وقليلة السكان, أقل من ثلاثة ملايين نسمة, اتخذت في شكل تنميتها هيئة منصة تصدير”, حيث كانت, ولا تزال تعتمد على التصدير محورا أساسيا في التنمية الاقتصادية التي أحدثتها. لكن أهم خلاصة يستخلصها عبد الفضيل من قراءته للتجربة السنغافورية في التنمية, وهي عمليا الخلاصة نفسها لقراءته التجارب الأخرى هي خطأ الادعاء الحديث بأنه لا بد من إحداث فصل تام بين السوق والتخطيط, إذ من المعروف أن التنمية في سنغافورة كانت مقادة عن طريق التخطيط الذي رعته الدولة, ومن هنا, وبحسب عبد الفضيل, فإن هناك إمكانية حقيقية لقيام مزيج ناجح من السياسات الحكومية التداخلية من ناحية, وآليات السوق من ناحية أخرى.

 

ماليزيا

ورغم تطبيقها نفس نموذج “المزج” بين السوق والتخطيط المركزي, فقد اختلف نمط التنمية فيها عن سنغافورة حيث كان التحدي الأساسي الذي قاده مهاتير محمد, الرئيس الماليزي والعقل المفكر وراء النهضة الماليزية, هو إحداث تنمية منفتحة على العالم الخارجي ومتفاعلة معه لكن دون فقدان السيطرة الوطنية على مفاعيل الاقتصاد, أو تعريض البلد لمخاطر التبعية الاقتصادية التي تجلبها معها الاستثمارات الأجنبية. والواقع أن لتجربة ماليزيا أهمية ومذاقا خاصين بكونها بلدا إسلاميا يتشابه في كثير من جوانبه مع البلدان العربية, والتعمق في دراسة تجربته ضرورية وملحة. وقد مرت مسيرة التنمية هناك في مراحل ثلاث: الأولى في حقبة 1970 وهي مرحلة تدخل الدولة بقوة في رسم مسيرة التنمية ووضعها على الطريق الصحيح, وقد اتسمت بتوسع رقعة القطاع العام. والثانية هي مرحلة التصنيع الثقيل في سنوات 1981-1985, وقد مثلت هذه الفترة البداية الصلبة والحقيقية لتعميق القاعدة الصناعية للاقتصاد الماليزي, والانطلاق إلى آفاق التصدير. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة التحرير الاقتصادي, 1986-2000, وفيها بلغ الاقتصاد الماليزي مرحلة النضج وتجاوز مخاوف التراجع, وقد شملت هذه المرحلة ثلاث خطط خمسية متلاحقة, هدفت إلى تحرير الاقتصاد والانفتاح على الاقتصاد العالمي مع وجود ضوابط تضمن مقومات الوطنية الاقتصادية. وقد أدت سياسات هذه المرحلة إلى: تنشيط عمليات النمو الصناعي, وتعميق التوجه التصديري في عمليات التصنيع, وتحديث البنية التحتية للاقتصاد الماليزي, وإحداث مزيد من التعاون الاقتصادي الإقليمي في إطار مجموعة بلدان كتلة آسيان, وتطوير طبقة من رجال الأعمال الماليزيين من ذوي الأصول المالاوية (ص 42). لكن الجانب السلبي في المرحلة الثالثة برز في نمط التوسع الهائل وأحيانا غير المحسوب والذي لا يتناسب مع قدرة البلاد أو العمالة المحلية على الاستيعاب، مما أدى إلى تبديد العديد من الموارد. ويطرح عبد الفضيل السؤال الصعب, التالي في ضوء التجربة الماليزية “ما معدل السرعة الأمثل الذي يمكن أن ينمو به الاقتصاد الوطني, من دون أن يصطدم ببعض القيود الحاكمة: قصور الأيدي العاملة الوطنية,من ناحية, وعدم كفاية عناصر البينة التحتية من ناحية أخرى؟ وكيف يمكن ضمان درجة عالية من الانسجام في وتائر التنمة المرتفعة؟” (ص 53).

التجربة الكورية (الجنوبية)

في التنمية تطرح نموذجا آخر, لكن أيضا في سياق نمط “المزج” بين تخطيط الدولة والسوق. فهنا نحن أمام اقتصاد حظي بدعم المعسكر الغربي خلال حقبة الحرب الباردة, خاصة في عقدي الستينيات والسبعينيات, وذلك لكون كوريا الجنوبية كانت في قلب التحالف الغربي الأميركي ضد التحالف الشرقي وضد الصين وكوريا الشمالية. ومن هنا فإن الاعتقاد الشائع, وهو صحيح إلى حد بعيد, أن ذلك الدعم وفر الانطلاقة الأولى للاقتصاد الكوري, ومكن البلد من النهوض والوصول لاحقا إلى درجة الاعتماد على النفس. وعلى العموم تمثل التجربة الكورية أنضج تجارب النمور الآسيوية, كما يصفها عبد الفضيل. لكن من الملفت للانتباه أن الأرقام والإحصائيات التي يوردها الباحث حول مجموع الدعم المالي الأميركي لها محيرة. فبحسب ما يرد في الكتاب, قدمت الولايات المتحدة لكوريا الجنوبية في ما بين سنتي 1946 و1976 نحو 12.6 مليار دولار, وقدمت المؤسسات المالية الدولية نحو 1.9 مليار دولار, وقدمت اليابان نحو مليار دولار (ص 56). وهذ الأرقام تبدو متواضعة حتى لو نظر إليها بحسب قيمة الدولار في حينه, كما أن الباحث لم يعلمنا بالنسبة المئوية التي شكلتها هذه الأرقام من كامل الميزاينة الكورية في السنوات المحددة, ولهذا فإن هذه الأرقام ظلت صماء ولم تعطنا فكرة عن عمق الدعم ودوره الحقيقي. وهذه النقطة في غاية الأهمية لأن النقاش يدور دائما حولها, وهو إلى أي مدى كان الدعم الغربي محوريا في نجاح تجربة كوريا الجنوبية وإلى أي مدى زمني؟.

 

 

نموذج الأوز الطائر:

يعالج عبد الفضيل ما يسمى بنموذج “الأوز الطائر” في التجربة التنموية الآسيوية, وهو النموذج الذي صاغه الاقتصادي الياباني أكاماتزو في ثلاثينيات القرن العشرين, ليصف التطور الاقتصادي في الدول النامية, والتي جاء نموها متأخرا عن النمو الرأسمالي الغربي. يتشكل هذا النموذج من ثلاث مراحل مرتبطة بدورة المنتج, كالآتي: المرحلة الآولى: يبدأ البلد الآخذ في النمو باستيراد السلعة من البلد المتقدم القريب منه في آسيا (اليابان كانت في البداية ذلك البلد المتقدم). المرحلة الثانية: يحاول البلد الآخذ في النمو إنتاج السلعة على أرضه بتمويل مشترك أو دون تمويل مشترك من البلد الأم (المتقدم). المرحلة الثالثة: يبدأ البلد الآخذ في النمو في تصدير السلعة إلى البلدان الآسيوية المجاورة الأقل تقدما (ص 155). غير أن عبد الفضيل يرى أن هذا النموذج محدود بالتجربة التاريخية الآسيوية والنظرة الأحادية التي تنتظمه, ويرى معوقات عديدة في تطبيقه على البلدان العربية.

 

ملاحظات على الكتاب:

ثمة عدد من الملاحظات التي كان بإمكان المؤلف تفاديها بحيث تجعل الكتاب أكثر متانة وأقل أخطاء, رغم أن هذه الملاحظات لا تؤثر في الجوهر العام لأطروحة الكتاب وللإسهام الكبير الذي يقدمه. أولى هذه الملاحظات متعلق بالابتسار والاختصار في الشرح والتعمق في بعض الجوانب المثيرة والتحليلية التي يشعر القارئ أن المؤلف توقف في تناوله لها في منتصف الطريق لسبب أو لآخر, فبدت المعالجة في بعض المواضع متعجلة وغير مشبعة. وكأمثلة على هذه النقطة يتحدث المؤلف, في القسم الثاني المخصص لتحليل السياسات الإنمائية للدول الآسيوية, عن مفهوم “مثلثات النمو” بين الدول الآسيوية (ص 136), ويقول إنها تتشكل بين مجموعة من البلدان المتجاورة لإنشاء صناعات تصديرية ذات قدرة تنافسية عالية, سواء في السوق المحلي أو السوق العالمي، ويذكر أن تشكيل هذه المثلثات يسهل في جنوب شرق آسيا مثل سنغافورة- تايلند- ماليزيا, أو ماليزيا-تايلند-إندونيسيا, إلخ. لكن المؤلف لا يتوسع بما فيه الكفاية في شرح آلية عمل هذه المثلثات، خاصة وأنه يقترح تطبيق نموذجها على البلدان العربية. ومن الملاحظات الأخرى إيراد مصطلحات اقتصادية فنية لا يعرفها القارئ غير المتخصص, دون شرح أو توضيح, مثلا عامل جيني في تقدير نسبة توزيع الثروة الوطنية على السكان (ص 68), وكذلك عدم الإشارة إلى مصادر بعض الإحصائيات والجداول (ص 67).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 × اثنان =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube